ليلة القرنقعوه بعيون المقيمين في قطر

ليلة القرنقعوه بعيون المقيمين في قطر.. ماذا تعني لأبناء شمال أفريقيا وبلاد الشام؟

في ليلة النصف من شهر رمضان كل عام، تصدح أهازيج الأطفال في شوارع الدوحة مردِّدةً “قرنقعوه قرقاعوه… عطونا الله يعطيكم”، حيث تنبض الأحياء بفرحة ليلة القرنقعوه. ماذا تعني لأبناء شمال أفريقيا وبلاد الشام، وما هي ليلة القرنقعوه بعيون المقيمين في قطر؟

ليلة القرنقعوه بعيون المقيمين في قطر

بينما يعدُّ هذا التقليد جزءاً أصيلاً من تراث أهل قطر والخليج، يحرص أبناء الجاليات العربية المقيمة في قطر – من تونس والمغرب والجزائر إلى لبنان وسوريا والأردن ومصر والسودان – على المشاركة بحماس في إحيائه جنباً إلى جنب مع الأسر القطرية. وقد تحول هذا الاحتفال الشعبي إلى مناسبة جامعة تعكس التلاحم الثقافي والاجتماعي بين مختلف مكونات المجتمع القطري.

ليلة القرنقعوه بعيون المقيمين في قطر
ليلة القرنقعوه بعيون المقيمين في قطر

ما هي ليلة القرنقعوه؟ تراث رمضاني خليجي

القرنقعوه هي مناسبة رمضانية تحتفل بها الأسر في قطر ودول الخليج في ليلة الخامس عشر من رمضان. يرتدي الأطفال خلالها الملابس التقليدية المزخرفة ويخرجون بعد الإفطار للطواف بين بيوت الحي (الفريج)، مردّدين الأناشيد التراثية الخاصة بالمناسبة، بهدف جمع الحلوى والمكسرات التي يقدّمها الجيران.

تختلف تسمية هذه الليلة من بلدٍ خليجيٍّ لآخر، لكنها تتفق في معناها ومغزاها؛ فهي تكريمٌ للأطفال وتشجيعٌ لهم على مواصلة الصيام حتى نهاية الشهر الفضيل. في قطر، يستعد الأهالي للمناسبة بتحضير سلال كبيرة مملوءة بالمكسرات والحلوى الشعبية لتوزيعها على الصغار، ويُعرف الكيس القماشي الذي يحمله الطفل لجمع الهدايا باسم “الخريطة”.

يلبس الأولاد الثوب الأبيض مع صدرية مطرزة ويعتمرون القحفية (طاقية مزخرفة)، فيما ترتدي البنات الثوب الزري المزركش بخيوط ذهبية ويضعن البخنق على رؤوسهن – وهي أزياء تراثية تضفي على المشهد بهجة وأصالة. طوال جولتهم ينشد الأطفال أغنية

“قرنقعوه قرقاعوه عطونا الله يعطيكم…”

الشهيرة، في مظهر احتفالي يعبر عن روح الكرم والجود المتجذر في الثقافة الخليجية مشاركة أبناء الجاليات العربية في قطر.

لا تقتصر فرحة القرنقعوه على أبناء قطر وحدهم، بل تمتد لتشمل الأطفال من مختلف الجنسيات المقيمة في الدولة. شهدت السنوات الأخيرة تزايداً ملحوظاً في حرص العائلات العربية المقيمة على إدخال أبنائها في أجواء هذا الاحتفال الرمضاني المميز.

"قرنقعوه قرقاعوه عطونا الله يعطيكم..."
“قرنقعوه قرقاعوه عطونا الله يعطيكم…”

في المجمعات التجارية والفعاليات الثقافية – مثل مهرجانات كتارا وسوق واقف – يصطف الأطفال العرب من تونس والمغرب والجزائر ومصر والسودان وبلاد الشام جنباً إلى جنب مع أقرانهم القطريين وهم يرتدون الزي الخليجي، وينشدون الأغاني التراثية، ويلتقطون أكياس الحلوى والمكسرات بابتسامات عريضة. وقد ساهمت المؤسسات والجهات المختلفة في قطر بتنظيم فعاليات القرنقعوه وإبداع طرق لتوزيع الهدايا، ما أدخل السرور إلى قلوب الصغار على اختلاف جنسياتهم.

تقول إحدى الأمهات المصريات المقيمات في الدوحة إنها تحرص على اصطحاب أطفالها كل عام إلى احتفالات القرنقعوه العامة ليشعروا بأنهم جزء من النسيج الاجتماعي في قطر، خصوصاً وأن هذه التجربة فريدة من نوعها ولم يعرفوها في بلدهم الأم. كذلك يعبّر أبٌ سوري عن سعادته عندما يرى أطفاله يرتدون الملابس الخليجية التقليدية ويشاركون أصدقاءهم وجيرانهم فرحة القرنقعوه، معتبراً أن هذه المشاركة منحتهم شعوراً بالانتماء والانسجام مع ثقافة مجتمعهم الجديد.

ومن اللافت أن كثيراً من أبناء هذه الجاليات يتعلمون طقوس القرنقعوه وأغنياته في المدارس المحلية والدولية بقطر، حيث تحتفل المدارس أيضاً بهذه المناسبة ضمن الأنشطة الرمضانية. وهكذا أصبح أطفال العرب المقيمين ينتظرون منتصف رمضان بلهفة، تماماً كما يفعل أقرانهم الخليجيون، للمشاركة في المسيرات الصغيرة داخل الأحياء أو الحفلات الجماعية حيث يتبادلون الفرح والهدايا. هذا التفاعل الإيجابي حوّل القرنقعوه إلى جسر ثقافي بين القطريين والمقيمين، يلتقي فيه الجميع على حب الأطفال وإسعادهم، بصرف النظر عن اختلاف المنابع الثقافية.

الأبعاد الثقافية والاجتماعية لاحتفالات القرنقعوه

يحمل احتفال القرنقعوه أبعاداً ثقافية واجتماعية عميقة في المجتمع الخليجي عمومًا والقطري خصوصًا. فهو تقليد يربط الحاضر بالماضي، ويحافظ على استمرار العادات الرمضانية التراثية عبر الأجيال . تعكس هذه الليلة قيم الكرم والتكافل الاجتماعي؛ إذ يجود أهل الحي بما لديهم لإدخال الفرحة إلى نفوس الأطفال، فيتعلّم الصغار معاني العطاء والمحبة منذ نعومة أظفارهم. تؤكد الدراسات التراثية أن “القرنقعوه” يهدف إلى تعزيز المودة والألفة بين أفراد المجتمع كباراً وصغاراً، وتشجيع الأطفال على الصيام والتمسّك بالتقاليد القطرية، إلى جانب ترسيخ مبادئ التكافل والتآخي الاجتماعي.

احتفال القرنقعوه
احتفال القرنقعوه

ومن هذا المنطلق، حرصت الدولة حديثاً على توسيع نطاق الاحتفال من كونه نشاطاً أسرياً في الأحياء إلى فعالية مجتمعية شاملة؛ فقد تطوّر القرنقعوه من تجمعات شعبية بسيطة إلى مهرجانات كبرى تشارك فيها المؤسسات والشركات والأندية، برعاية ودعم من وزارة الثقافة القطرية للحفاظ على هذا الإرث وتعزيز الهوية الوطنية.

وعبر هذه المهرجانات، يجد أبناء الجاليات المقيمة فرصة للمساهمة في المشهد الثقافي المحلي والتعرّف على التراث القطري عن قرب، مما يعمّق التفاهم والتواصل بين الثقافات المختلفة داخل قطر.

اجتماع الجيران وأفراد الحي خلال القرنقعوه يوطّد العلاقات الاجتماعية بينهم. يطرق الأطفال الأبواب فيتعارفون على سكان المنطقة الواحدة، ويتشاركون جميعاً لحظات الفرح. كما أنّ حضور العائلات الوافدة إلى الاحتفالات العامة – وتفاعلهم مع العائلات القطرية – خلق مجتمعاً مصغّراً نابضاً بروح رمضان الحقيقية التي تجمع ولا تفرّق. وتصف إحدى السيدات المغربيات المقيمات تلك الليلة قائلة:

 “إنها مناسبة ترى فيها قطر كأنها بيت كبير واحد؛ الكل يحتفي بالأطفال ويتبادل التهاني والحلوى بلا تكلف” – في إشارة إلى ما تولّده هذه الاحتفالات من تقارب ومودة بين الناس.

لماذا تتفاعل الجاليات غير الخليجية مع القرنقعوه؟

قد يتساءل البعض: ما الذي يدفع عائلات من تونس أو لبنان أو السودان و المغرب مثلًا للاحتفاء بمناسبة تراثية لم تكن موجودة في ثقافاتهم الأصلية؟

أولاً، يلعب الانفتاح الثقافي دوراً كبيراً؛ فالمقيمون العرب في قطر يرون في القرنقعوه فرصة للتعرف على تقاليد البلد المضيف والمشاركة فيها احتراماً وتقديراً. الكثير منهم وجدوا أوجه تشابه في روح هذه العادة مع تقاليد أخرى في أوطانهم تعزّز قيم التكافل وإسعاد الأطفال في المناسبات الدينية، رغم اختلاف الشكل. على سبيل المثال، يوضح طارق الهاشم، وهو مقيم أردني في الدوحة منذ عام 2001، أن رمضان في قطر يشبه نظيره في الأردن في معظم العادات، باستثناء ليلة القرنقعوه التي “هي مناسبة غير موجودة في الأردن” .

غياب مثل هذا التقليد في بلاد الشام ومصر والجزائر دفع الأسر القادمة من تلك الدول إلى تبنّي القرنقعوه بحماسة في قطر لتعويض أبنائهم عن تجربة لم يحظوا بها في وطنهم، ولإثراء طفولتهم بذكريات جديدة ومميزة. ويشير مقيمون مغاربة إلى أن العادات الرمضانية في بلدانهم تركز أكثر على النصف الثاني من شعبان (ليلة الشعبانة) استعداداً لقدوم رمضان، ولا تتضمن احتفالاً محدداً في منتصف رمضان ؛ لذا وجد أبناء الجالية المغربية في القرنقعوه إضافة جميلة لطقوسهم الرمضانية منذ انتقالهم للعيش في قطر.

احتفال القرنقعوه
احتفال القرنقعوه وتفاعل أبناء المقيمين

ثانياً، إن أجواء القرنقعوه المرحة والمفيدة للأطفال تجعلها تلقى قبولاً عارماً بين المقيمين. فالعائلات القادمة من خارج الخليج ترى البهجة في عيون أبنائها وهم يرتدون اللباس التقليدي ويجمعون الهدايا، مما يدفعهم لتشجيع المشاركة سنوياً. كثير من الآباء والأمهات العرب المقيمين يعتبرون هذه الليلة مناسبة لتعويض أبنائهم عن بعدهم عن الأهل في الوطن خلال رمضان؛ فهي تخلق جوًا عائليًا بديلًا يشعر فيه الطفل بأنه محاط بمجتمع محب يهتم بفرحه. وإلى جانب المتعة، يلمس الآباء البعد التربوي للاحتفال، إذ يتعلم الأطفال قيمًا مثل المشاركة والشكر والتواصل مع الجيران. تقول أمٌّ لبنانية تقيم في قطر إن أبناءها تعلّموا من القرنقعوه معنى العطاء،

“فقد اعتادوا تقديم بعض مما جمعوه من حلويات لإخوانهم الصغار وأصدقائهم” – وهي لفتة تربوية لم تكن لتتحقق لولا خوضهم هذه التجربة المحلية.

ثالثاً، ربما تختلف درجة تفاعل الجاليات مع القرنقعوه عن تفاعل أهل الخليج أنفسهم. بالنسبة للأسر القطرية والخليجية، القرنقعوه إرث اجتماعي متجذر تمارسه الأجيال بشكل تلقائي حفاظاً على الهوية والتراث. أما الأسر العربية غير الخليجية فتتعامل معه كعادة جديدة مكتسبة؛ فتظهر حماسة واضحة في تعلّم تفاصيلها ونقلها لأبنائها كجزء من اندماجهم في المجتمع. هذا الشغف أحياناً يفوق نظيره لدى بعض الأسر المحلية التي باتت تعتبر القرنقعوه أمراً اعتيادياً سنوياً.

وهكذا، نجد المقيمين العرب يحرصون على حضور فعاليات القرنقعوه العامة بكثافة، وربما يقومون بتوثيق تلك اللحظات بالصور ومشاركتها مع عائلاتهم في بلدانهم الأصلية ليعرّفوهم على جمال الثقافة القطرية. من جهة أخرى، قد لا يُظهر بعض المقيمين من غير العرب نفس المستوى من التفاعل، إما لاختلاف الخلفية الثقافية أو لكونهم غير معنيين بالصوم والاحتفالات المرتبطة به. لذلك تبرز الجاليات العربية – بحكم التقارب الثقافي والديني – كالشريحة الأكثر انسجاماً مع هذه العادة الخليجية وتفاعلاً معها.

أصبحت ليلة القرنقعوه حدثاً سنوياً تنتظره شتى الأسر في قطر مهما تنوّعت أصولها. فهي ليلة تنصهر فيها الفوارق لصالح ابتسامة طفل يتيم، أو ذكرى جميلة لصغير صام نصف رمضان فأُكرِم بحفلة صغيرة تكافئه وتشجّعه. وفي بلد كقطر يحتضن عشرات الجنسيات، نجح هذا التقليد البسيط في أن يكون قاسماً مشتركاً يجمع القلوب تحت مظلة الفرح والتراث. إنه مشهد يثبت أن قوة الثقافة في قدرتها على العبور والتأثير الإيجابي، فعادات قطر أصبحت جزءاً من ذاكرة أبناء تونس والمغرب والشام وغيرها، بفضل الانفتاح الاجتماعي والترابط الإنساني في هذا الوطن المضياف.

الرابط المختصر: doha24.net/s/lp

اشترك في قائمتنا البريدية واحصل على آخر المنشورات لحظة ورودها