في عمق الصحراء السودانية تقف أهرامات مروي وجبل البركل شاهدةً على حضارة وادي النيل الضاربة في القِدم. هذه الأهرامات – التي يبلغ عددها نحو 255 هرماً، أي ما يفوق ضعف عدد أهرامات مصر – تُعَدُّ كنزًا إنسانيًا نادرًا يعكس عظمة مملكة كوش القديمة. قطر تحمي أهرامات السودان من الزوال لكن هذا التراث الثمين واجه إهمالاً طويلًا بسبب محدودية الإمكانات المحلية والصراعات، ما جعله عُرضةً لخطر الاندثار. هنا برز دور قطر المحوري، حيث أطلقت منذ أكثر من عقد مشروعًا رائدًا لحماية الآثار السودانية وصونها من الضياع.
قطر تحمي أهرامات السودان من الزوال
برزت الفكرة عام 2008 إثر لقاء في الدوحة بين الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني (الأمير الوالد) والرئيس السوداني آنذاك عمر البشير. خلال ذلك اللقاء، أبدى الشيخ حمد اهتمام قطر بالآثار السودانية واستعدادها لدعمها بالشكل الذي يليق بدورها التاريخي. وبالفعل، وُضع حجر الأساس لشراكة ثقافية بين البلدين تُوجت بإطلاق المشروع القطري السوداني للآثار رسمياً عام 2012 بتمويل غير مسبوق بلغ 135 مليون دولار. استمر المشروع على مدار خمس سنوات (2013–2018) وشكّل نقلة نوعية في جهود الكشف عن آثار السودان وترميمها. وقد وصفت قطر هذا المشروع منذ انطلاقه بأنه تجسيد لرؤية قطر في تعزيز صلة الشعوب بماضيها وتاريخها، في إشارة إلى إيمان الدوحة بأن حماية التراث الإنساني مسؤولية جماعية وأخلاقية.

إنجازات عقد من الشراكة (2008–2018)
أسفر المشروع القطري السوداني عن إنجازات لافتة ساهمت في إنقاذ الأهرامات والمواقع الأثرية من الإهمال. بفضل الدعم السخي من قطر، تمّ تمويل 42 بعثة تنقيب وترميم دولية تضم خبراء من 25 مؤسسة علمية في 13 دولة. هذه البعثات كثّفت أعمال البحث في مواقع السودان الأثرية باستخدام أحدث التقنيات، ومنها المسح بالليزر ثلاثي الأبعاد، والتصوير الجوي، وأساليب تحليل متطورة، ما أدى إلى اكتشاف آلاف القطع الأثرية التي لم تكن معروفة من قبل. بعض هذه الكنوز يعود إلى ما قبل الميلاد وألقى ضوءًا جديدًا على تاريخ السودان العريق. كما توسّعت أعمال التنقيب في عشرات المواقع على امتداد حوالي 800 كيلومتر على طول نهر النيل من منطقة النقعة جنوبًا حتى وادي حلفا في أقصى الشمال.
شملت جهود قطر ترميم المواقع الهرمية والمعابد التاريخية في البجراوية (مروي) وغيرها، بما في ذلك فتح الغرف الجنائزية لبعض الأهرامات وإجراء الدراسات عليها بمشاركة خبراء دوليين. وقد تم ترميم الرسومات والألوان داخل هذه الأهرامات والمعابد لحمايتها من التلف. وإلى جانب ذلك، أولى المشروع اهتمامًا بتطوير البنية التحتية للتراث السوداني، فقام بتأهيل متحف السودان القومي في الخرطوم وتحديث أساليب العرض فيه، كما شرع في بناء متحف جديد في موقع النقعة الأثري ليكون مركزًا لاستقطاب السياح وعشاق التاريخ.
ولم تقتصر الرؤية على حماية الآثار فحسب، بل تعدّتها إلى تطوير السياحة الثقافية في السودان؛ حيث جرى إنشاء مخيّمات سياحية قرب مواقع مروي وجبل البركل المدرجة على قائمة اليونسكو، لتشجيع زيارة تلك المعالم وتأمين موارد مستدامة للمجتمعات المحلية.
أحمد الكواري: “جرح حضاري نازف”
من جهته، وصف الدكتور أحمد الكواري، رئيس مكتبة قطر الوطنية، ما يحدث في السودان بأنه “جريمة ضد الحضارة الإنسانية”. وفي تغريدة كتبها تعليقًا على التقارير المصورة التي أظهرت اقتحام المتاحف ونهبها، قال: “نيران الحرب لم تكتفِ بقتل الإنسان، بل امتدت إلى ذاكرته وروحه، فأحرقت المكتبات ونهبت المتاحف وطمست ما لا يعوّض”. وأضاف الكواري أن المشهد السوداني مؤلم للضمير الثقافي العربي والعالمي، داعيًا إلى تحالف ثقافي يحمي التراث المهدد ويمنع اختفاءه من الوجود.
المشروع القطري الرائد لترميم وحماية آثار السودان : لا ينبغي أن ينسى
في ظل ما تتعرض له المواقع الأثرية في السودان من تخريب ونهب وسرقة نتيجة للحرب والانفلات الأمني، تبرز الحاجة إلى التذكير بأحد أهم مشاريع حماية التراث الإنساني في السودان : المشروع القطري السوداني للآثار، الذي… pic.twitter.com/hdwRpJrSvO
— Hamad Al-Kawari (@alkawari4unesco) April 13, 2025
الحرب تهدد مكتسبات التراث
رغم ما تحقق من إنجازات، جاءت الحرب الأهلية المندلعة منذ أبريل 2023 لتلقي بظلال قاتمة على هذا التراث. فقد اندلع صراع عنيف على السلطة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، فتحوّلت معه مناطق عديدة إلى ساحات قتال فوضوية. وفي ظل الانفلات الأمني، تعرضت مواقع التراث والممتلكات الثقافية في السودان لخطر غير مسبوق.
كانت الصدمة الكبرى بتعرض متحف السودان القومي في الخرطوم للنهب والتخريب على أيدي مسلحين. فقد أظهرت مقاطع مصورة جنودًا يعبثون بمقتنياته حتى تحول إلى قاعات فارغة بعد أن سُرِقَت معظم محتوياته التي لا تُقدّر بثمن. ولم يقف الأمر عند هذا المتحف؛ إذ تؤكد التقارير أن قوات الدعم السريع دمرت جميع المتاحف في الخرطوم تقريبًا، بل وطالت أيدي التخريب مواقع في الأقاليم مثل متحف السلطان علي دينار في الفاشر.
دعوات عاجلة لحماية أهرامات السودان
أمام هذه الكارثة الثقافية، ارتفعت أصوات عديدة مطالبةً بالتحرك السريع لحماية ما تبقى من تراث السودان. قطر – التي كانت سباقة في دعم الآثار السودانية – لم تقف مكتوفة الأيدي، حيث بادرت عبر مسؤوليها لإطلاق نداءات استغاثة وتحذير.
تقول لولوة بنت راشد الخاطر وزيرة التعليم في قطر إن “سوداننا الشقيق يعاني من حرب فتكت بالبشر والحجر”، مؤكدةً أن المخربين دمروا المتاحف وأحرقوا المكتبات والمدارس. كما عبّر الدكتور حمد بن عبد العزيز الكواري عن بالغ أسفه، واصفًا تدمير المتاحف بأنه “جرح حضاري نازف”.
لولوة الخاطر: “المتاحف نُهبت والمكتبات أُحرقت”
في تعليق مؤثر يعكس فداحة الكارثة، عبّرت لولوة بنت راشد الخاطر،وزير التربية والعليم و التعليم العالي، عن صدمتها من حجم الدمار الذي طال الإرث الثقافي السوداني. وأكدت خلال ندوة دولية في الدوحة أن “متحف السودان القومي تحول إلى هيكل بلا روح، بعد أن نُهبت مقتنياته التي تعود إلى آلاف السنين”، مضيفةً أن “المخربين وتجار الحرب دمّروا المتاحف، وأحرقوا المكتبات، ودمّروا المدارس والجامعات.” وقد دعت الخاطر إلى تحرك عربي جماعي لإنقاذ ما تبقى من التراث، مؤكدة أن الاعتداء على الذاكرة الثقافية لأي أمة هو اعتداء على الإنسانية كلها.
تقاعس أم عجز دولي؟
أثار مشهد تدمير تراث السودان تساؤلات حول دور الجهات الدولية في حمايته. رغم المناشدات، لم تتمكن اليونسكو وغيرها من منع الكارثة قبل وقوعها. البعض رأى أن قطر كانت أكثر فاعلية من أي جهة دولية أخرى، نظرًا لما قدمته من دعم سابق للتراث السوداني، بينما اكتفت الجهات الأخرى بإطلاق التحذيرات بعد فوات الأوان.
إن أهرامات السودان وكنوزه الأثرية ليست مجرد أحجار صماء، بل ذاكرة أمة وإرث حضاري للإنسانية جمعاء، وأمانتها واجبة في أعناقنا جميعًا.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.